آخر أيّام المدينة لتامر السعيد: فيلم عن القاهرة التي لا تنتهي

آخر أيّام المدينة لتامر السعيد: فيلم عن القاهرة التي لا تنتهي

Partager

 

المدينة، هي صنع بشريّ بامتياز. لذا فهي تتماهى والروح الانسانيّة في جميع أبعادها وتتشكّل تجسيدا لتجليّات هذه الروح المتناقضة. المدينة استبطان لدواخل صانعها وترجمة ماديّة لكلّ المحسوسات المكثّفة للإنسان. تكتسب المدينة تعقيد الإنسان وتشتّته فتخسر تناغمها على مرّ السنين، تلبس اختناقه فترتفع مبان شاهقة تقطع نفس روّادها، تقام على سواعد المنتصرين فتخلّد روح الانتصار في زخارفها، وتبنى على أكتاف المهزومين فتتشقّق جدرانها سنة بعد سنة. تعيش المدينة كلّ ما يعيشه الإنسان، تغرق، تحترق، تسقط، تنهار تماما وتتجدّد في أشكال مختلفة في كلّ مرّة. بالمدينة روح أزليّة، تتلوّن دائما لتقول: "أنا لا شيء، سوى ما صنع الإنسان من نفسه".

مع كلّ هذا، تبقى المدينة أكبر من صانعها، هي المخلوق الذي تجاوز خالقه ليحتويه، ويكون سبب مأساته وانجازاته. خلقت المدينة من روح صاحبها ليلبس هو فيما بعد روحها، يؤثّر فيها ويتأثر بها إلى مالا نهاية.

سيكون من قبيل التعسّف إذا اختصرنا علاقة الإنسان بالمدينة في صيغة واحدة أو نوع واحد من العلاقات، ليس لأنّه منطق خاطئ، لكن لأنّها ضحيّة موجة الفردانيّة الطاغية على العالم اليوم، لتكون لكلّ فرد وجهة نظر خاصة به. "بغداد مو مدينة، بغداد صديق"، هكذا تحدّث حسن، أحد شخصيات تامر السعيد في "آخر أيّام المدينة"، الفيلم الذي يجعل من القاهرة شخصيّته الرّئيسيّة، ويحوّلها إلى مركز تحوم حوله كلّ الموجودات.

كثيرة هي المدن، ولا يتحوّل سوى العظيم منها إلى هاجس، فنرى القاهرة في السينما المصرية اليوم، كما كنّا نرى روما في موجة الواقعية الإيطاليّة الجديدة، وكما كنّا نرى برلين تتصدّر بحسنها وخيبتها عناوين ومعلّقات الأفلام الألمانيّة. " آخر أيام المدينة"، ينطلق من هذه التجارب في تجسيد المدينة، لكن سرعان ما يتجاوزها، كاسرا كلّ الحواجز الزجاجيّة التي تستعملها القاهرة لتوهمك بأنّك تعرفها، تاركة في قلبك نقطة سوداء، هي ذلك الغموض. عند مشاهدة الفيلم، نفكّر أنّ تامر السعيد لا يعيش في القاهرة إنّما يعيش معها، فتكرّمت عليه بأن أرته ما لم يره غيره.

الكثير ممّا ذكرناه، وما لن يفينا ذكره نصّ واحد، هو روح "آخر أيام المدينة" الذي تماهى مع القاهرة شكلا ومحتوى.

 

 

 

 

 

عن محتوى الفيلم، يجيبنا تامر السعيد بكلّ اقتضاب" هو فيلم عن ازاي شخص يواجه العالم وهو ينهار من حوله، وهو وحيد". القاهرة مكان مكتضّ، يعجّ بالخلق والمخلوقات وبالأشياء، بها أضعاف من كلّ شيء يمكن أن نراه بمدينة أخرى، لا تعطي سوى بغزارة، لذلك هي لا تأخذ سوى بكثافة. كلّ هذا نراه في الفيلم، نشعره ونعيشه بقوّة، في الأصوات المتعالية لكلّ شيء، الناس والسيارات والأشغال والاحتفالات والمظاهرات وفي الحركة أيضا وطبيعتها، نراه وراء زجاج المغازات وعلى وجوه المارين وفي المباني وفي الصمت. في الفيلم، لا يخرق تامر السعيد القاعدة بل يؤكّدها، أنّنا لا نعيش وحدتنا ولا نمارس فعليّا صمتنا سوى في قلب الاكتضاض، وأنّه ليس هناك أرضيّة خصبة أكثر من الفوضى والضغط، حتى نلتفت إلى أنفسنا، فلا معنى لدواخلنا لو لم نجد لها انعكاسات في كلّ ما يحيط بنا. هكذا كان خالد، شخصيّة الفيلم، يتغذّى من المشاهدة والاستماع واللمس، لأنّ فيض القاهرة بكلّ شيء يغذّي الحواس. لا يوجد أيّ سرّ في الفيلم، لا غموض ولا ما يدعو للفضول، لقد تعرّت المدينة أمامنا وأمام تامر، عاشقها، الذي قدّم لنا من خلال الفيلم فرصة للتوقّف أمامها وتأمّلها دون أن نكون مجبرين على الرّكض وراء نسق سريع أو حدث نأمل أن يحصل. لا يوجد حدث قادح، لا نهاية سعيدة ولا تراجيديا ولا أيّة عقدة، نحن في " آخر أيّام المدينة"، أمام حالة انهيار ثابتة وسقوط متواصل دون أيّة نهاية.

تحمل القاهرة تناقضات لا يمكن عدّها، ما يجعل منها مكانا ينتفي فيه كلّ شعور بالاختلاف والغرابة، هي مكان أليف، طيّع لدرجة القدرة على استيعاب كلّ حمل وثقل، هي مدينة لا يمكن أن تشعر بها أنّك هجين. لهذا، حوّلها تامر السعيد في فيلمه إلى مرآة لمدن أخرى، لا تقلّ عنها حملا تاريخيّا وثقافيّا وانهيارا راهنا تعود بدايته إلى عقود. حسن وطارق من العراق وبسام من لبنان، هم أصدقاء خالد (البطل)، يتقاسمون معه السؤال، يحملون مثله نفس الهاجس، ويراقبون، كما يفعل هو، سقوط مدنهم عاجزين عن الحركة. هناك منهم من أدّى به هذا العجز إلى الهروب، هناك من زجّ به إلى الموت ومن انتهى كارها كلّ شيء. أمّا عن خالد، فلا شيء.

 

unnamed_1.jpg

 

في شكله، يلبس الفيلم لون الحزن، "الأصفر"، لتكون عمليّة تصحيح الألوان، لغة في حدّ ذاتها وسط الفيلم. تلعب الكاميرا في الفيلم دورا استثنائيّا، فهي،على عكس العادة، ليست كاميرا ذاتية ترينا ما تراه الشخصيّة، إنّما ترينا ما يمكن لأيّ زائر أن يرغب برؤيته، حيث تجد نفسك غير قادر على التزام الثبات. في شوارع القاهرة، من شأن كلّ تفصيل أن يشدّ انتباهك ويدعوك للنظر إليه بتمعّن، لهذا نجد كاميرا السعيد تجيل نظرنا نحو كلّ شيء، متمنّين أن تتوقّف قليلا، حتى نشاهد أكثر.

 

خانقة هي القاهرة، وفيها لمن يحب الحياة الكثير من الفسح. هكذا اختنق آخر أيام المدينة، حيث ندرت فيه اللقطات العريضة، فسجن كلّ شيء بين لقطات كبيرة ومتوسّطة، لكنّه كتب بفيض من الإحساس يخرجك من كلّ لقطة إلى مجالات شاسعة من التخيّل والتأمّل. لا تحمل القاهرة حقيقة واحدة، وإن كان لها حقيقة، فهي لا تقدّمها لأحد، فالسؤال الدّائم، هو أحد أهمّ أركان عبادتها وأسس العيش فيها. لم يقدّم تامر السعيد عبر فيلم أيّ حقيقة سينمائيّة، هو بالعكس، ساءل الحقيقة في حدّ ذاتها وساءل السّينما أيضا في معناه وفي الشاكلة التي يجب أن يقدّم عليها هذا الفنّ. لا ينتهي آخر أيّام المدينة عند كونه فيلم، فقد تجاوز ذلك ليكون تجربة سينمائيّة يجب أن تطرح يوما ما للدراسة. لا توجد حدود في الفيلم، ولا نستطيع خلاله إيجاد الفرق بين الواقع والتمثيل، فقد صوّر تامر المراحل الروائيّة في الفيلم بتقنيات تصوير الفيلم الوثائقي، وأضاف لمسة جماليّة وحكائيّة على مراحل التصوير المرتجلة للحياة اليوميّة في مصر. مع هذا الفيلم، نراجع معنى الارتجال، ونعيد النظر في فكرة الفصل بين الفيلم الروائي والفيلم الوثائقي. علينا أن نتساءل كثيرا حول كلّ ما شاهدناه في آخر أيام المدينة، أمّا عن تامر، فقد أجاب بكلّ أريحيّة بعد ما تعلّمه من تجربته مع الفيلم. الإجابة، هي الحريّة.

الحريّة، أو التوق إليها، هو ما جعل من تجربة الفيلم تمتدّ على عشر سنوات، تلك الرغبة في القيام بشيء لا تتدخّل به سلطة من يتبنّاه ماليّا. تجربة صعبة ومريرة، نتذوّق لذّتها حين ينتهي كلّ شيء، ونعلم أنّنا قمنا بكلّ ما نريد، ونعلم أنّنا حينها فقط سنبدأ من جديد.

 

آخر أيّام المدينة، هو شهادة تدوم ساعتين عن القاهرة، بطاقة هويّة لمدينة يغطّيها الحشد حين يستيقظ وتتعرّى عندما ينام الجميع.