السيّدة المنوبية، الوليّة الصالحة التي لا نعرف من حياتها إلا الجانب الورع وبعض الأساطير والحكايات الشعبية عن قدراتها الخارقة في العلاج. لم تكن السيّدة المنوبية أو عائشة المنوبية ابنة الوليّ الصالح سيدي عمر (الشيخ عمران ابن الحاج سليمان المنّوبي) مجرّد امرأة تقرّبت إلى الله بـ"الكرامات" و"الأعمال الحسنة"، بل كانت ومازالت رمزا للمرأة التي اقتحمت المجال الذكوريّ والحقل الصوفيّ الذي لم يسمح كثيرا بظهور نساء صالحات بالمقارنة كمّا مع الرجال الصالحين (نتحدّث هنا عن نظام الولاية).
خلال العهد الحفصي كانت المعرفة حكرا على الرجال أو بعض النساء من العائلة الحاكمة، لذلك مثّلت السيّدة المنوبية استثناءً خاصّة وأنّها تنحدر من عائلة فقيرة. مكّنها نبوغها من الاختلاط بعلية القوم مثل الأمير الحفصي أبي محمد عبد الواحد، وتعلّم الكثير من أبي سعيد الباجي والتقرّب من أبي الحسن الشاذلي (الطريقة الشاذلية) وقد أصبح فيما بعد معلّمها الروحيّ.
تأثّرت السيّدة المنّوبية بأبي الحسن الشاذلي وبفكره ونهجه الدينيّ وهو الذّي تعرّض مثلها إلى الرفض من قبل عدد من الفقهاء، فقد تصدّى له أبو القاسم محمد بن الجرّاد حتى أوقعه في ورطة المحاكمة بمجلس الأمير أبي زكرياء الحفصي وأصدر عليه حكما بالسجن لولا تدخّل أحد الأعيان وهو ما تذكره "الموسوعة التونسية" الصادرة عن بيت الحكمة في جزئها الثاني.
تجاوزت السيّدة المنوبية المألوف وحرّكت السواكن في عصرها، حيث كانت تتجوّل في الشوارع مثل الرجال، محاولة مساءلة البنى الفكرية التقليدية ورؤية الأشياء بعين العقل حتى طالب أحد الفقهاء المتشدّدين برجمها. مثّلت هذه الحادثة نقطة تحوّل في حياتها، ورغم رفض الفقهاء المسلمين لها، واصلت طريقها إلى حين إثبات صلاحها والاعتراف بولايتها.
تؤكد روايات عديدة تعرّض السيّدة المنوبية، وقد كانت امرأة فائقة الجمال، إلى مضايقات مجتمعية أخلاقوية فحاول والدها تزويجها لأحد أقربائها، لكنّها رفضت ولم تنصع إلى القيود والضوابط في وقت لم يكن بإمكان النساء فيه أن يقرّرن مصائرهنّ بأنفسهنّ. ففي كتابه "مناقب السيّدة عائشة المنوبية" وهو من الكتب النادرة والمهمّة (صدر سنة 1344م)، تحدّث الحاج العربي الغربي عن رفض السيّدة المنوبية الزواج حيث أورد في كتابه ما يلي: "وكانت سيّدتي عائشة المنوبية جرى لها أمر عجيب يعتقده الصالح والجاهل، نُقل أنها كانت بنت اثنى عشر سنة وهي تلوج في شوارع منوبة فعرضها الخضر عليه السلام (من الشخصيات المذكورة في سورة الكهف) في صفة ولد صغير وقال يا عائشة نخطبك من عند أبيك وناخذك بالسيف أنت منزلة في زمامي منذ ثلاثة آلاف سنة، فنهرت في وجهه ومشت لأبيها وقالت له يا أبت عرضني رجل وقال لي كذا وكذا وأنا خفت منه وهو قال لي ناخذك بالسيف، فإذا بعمها داخل في الباب فقال له أبوها اعزم خذ امرأة ابنك ألم تعلم أن هذا الزمان فاسد وأنا والله خائف عليها من عوائق الزمان (...) وكانت السيّدة عائشة واقفة فالتفتت لابن عمّها وقالت له أنت تحب أن تاخذني (تتزوجني) إنشاء الله تموت غدا عند الضحى فضحك الناس منها، فلما كان نصف الليل أعطاه الله وجعا على سرّته فبقي يطارده حتى الضحى ومات رحمه الله".
عادة ما ترتبط ولاية المرأة في جميع الطرق الصوفية، وعلى اختلافها وتباينها، بمدى طاعتها للرجل: الأب والزوج، وهو ما لم تفعله السيّدة المنوبية برفضها لمؤسسة الزواج واختيار الانصهار في عالم الروحانيات والمعرفة واكتساح الفضاء الذكوري المغلق. مع العلم أن المرأة عند بعض المتصوفين الكبار مثل ابن عربي هي الأقرب إلى الله، لأن العلاقة معها تعدّ تجديدا للعلاقة مع الألوهية. يقول ابن عربي "فشهود الحقّ في النساء أعظم الشهود وأكمله وأعظم الوصلة النكاح وهو نظير التوجّه الإلهي على من خلقه في صورته ليخلفه فيرى فيه نفسه (...)"، فالعلاقة الجسدية بين المرأة والرجل هي فعل من أفعال العبادة عند ابن عربي.
كانت السيّدة المنوبية مختلفة عن غيرها من النساء الصالحات لأنها كانت تتميز بالعلم والمعرفة، على عكس لالة ميمونة المغربية، ذائعة الصيت، والتي تمّ الاعتراف بولايتها لشدّة تعبّدها إلى جانب قدراتها "الخارقة للطبيعة"، وكانت عندما تُسأل عن معرفتها بالآيات القرآنية تقول في جملتها الشهيرة (صارت كمثل شعبيّ) "ميمونة تعرف الله والله يعرف ميمونة" والتي صارت بلهجتنا العامّية التونسية "ميمونة تعرف ربّي وربّي يعرف ميمونة".
لم تمتنع السيّدة المنوبية عن ترديد جملتها المشهورة أمام أيّ كان "أنا سيّدة الرجال، أنا فارسة الفرسان"، وهو ما يدلّ على قوّة شخصيتها وإيمانها القلبيّ الجازم، إلى حدّ الهذيان، بأنّ الله "أحبّها واختارها واصطفاها وزيّنها وسقاها بيده وجعلها زينة الأولياء" (كتاب مناقب السيّدة عائشة المنوبية). وتبدو علاقة السيّدة المنوبية بالذات الإلهية شبيهة بعلاقة الحلاّج بربّه إذ يرى الله كحقيقة نفسية، حيث كانت تقول "أنا سكرانة طول حياتي وفي مماتي. وفي قبري إذا سألني الملكان يجداني هائمة وإذا لقيت ربي نلقاه سكرانة"، وحديثها عن السكر هنا ليس بمفهومه المتداول عند الناس وإنّما المقصود هو أنها مأخوذة بعاطفة شديدة حدّ الهيام والانصهار مع الله في عوالم أخرى.
Photo de couverture: Ivano Ruffini