بو كلثوم: يغني لينام الجلاد الذي بداخله

بو كلثوم: يغني لينام الجلاد الذي بداخله

Partager

 

"بو كلثوم" هو لقب الفنان الدمشقي السوري "منير بوكلثوم" الذي عرف في بداية مسيرته بإسم "منير كوزياك". هو منتج موسيقي ومغني يتبنى مشروع الهيب هوب في موسيقاه. تأثره بالراب الأمريكي صارخ، إذ يذكرنا الشعار الخاص بالمشروع الثنائي"لتلته" الذي يجمعه بخيري المعروف باسم "جندي مجهول"، بشعار فرقة الراب الأمريكية "WU-TANG-CLAN" التي بدأت نشاطها الموسيقي في بداية التسعينات مع أعضاء ينتمون إما ل"State island" أو ل"Brooklyn". "على ذكر بروكلين فإن بوكلثوم، هو من أشد المعجبين بأعمال Sean Price الذي ولد في هذه المدينة، وكان له حلم بأن يجمعه به عمل موسيقي. إلا أن كل أماله في تحقق مشروع مماثل اندثرت بعد أن فارق الرابر الحياة في 8 أوت 2015 في مسقط رأسه.

بقي الأمر مجرد فكرة بالنسبة لبو كلثوم سبقته في تحقيقها فرقة الراب المشرقية "بلاك-بانرز"، حيث جمعتها مع Sean-Price  أغنية بعنوان Open-letter. لم يكن هذا التعاون الوحيد بين الفرقة ونجوم من الغرب، إذ تعاون بلاك بانرز مع "Vinnie-Paz " ولعبوا بعد ذلك دور الوسيط في تعريف بوكلثوم على هذا الرابر العالمي حين تواجد الأطراف الثلاثة بأمستردام. أغنية "امسكني"، هي نتاج هذا التعارف، بين الفنانين، حيث تم ادراجها ضمن ألبوم بوكلثوم الأخير "بعبع" الصادر في أوت 2017 و الذي يحمل 16 أغنية.

 

 

 

 

في نفس السنة تم إنهاء مشروع لتلته الذي يحمل اسم "ثنائي لتلته الديناميكي"، والمتكون من أبناء حارة ساروجة، بوكلثوم وجندي مجهول. مشروع موسيقي تعددت فيه الإنتاجات والتعاونات مع أكثر من طرف من المنتمين لساحة الفن البديل والذين تندرج موسيقاهم ضمن صنف الهيب هوب على غرار "الدرويش"

كانت للثنائي عروض من الطراز الرفيع في أكثر من بلاد أوروبية لعل أهمها برلين. كما اعتليا مسرح متحف الهجرة بالعاصمة الفرنسية باريس وهي مكان إقامة "جندي مجهول" الذي جدد تعاونه مع بو كلثوم ولكن ليس كثنائي بل عن طريق مشاركته له في أغنيتين، هما "المحطة الأولى" و "الثالثة ثابتة" التي أنتجها بوكلثوم. ليس الإنتاج عملا جديدا عليه، فهو يقدم نفسه دائما كمنتج, و قد توالت إنتاجاته للعديد من أغانيه على غرار "لم الشمل" التي صدرت في إطار تعاونه مع خيري كثنائي والتي استهلها بمقطع من أغنية "Goodbye " لمغني الراب الأمريكي من مدينة "نيو جرزي "Russel Vitale" المعروف باسم "Russ". كل هذا، من شأنه أن يذكرنا مرة أخرى بتأثير الإنتاجات المتعلقة بالراب والهيب هوب في أمريكيا تحديداً، على موسيقى بوكلثوم. هذا لا ينفي أن يكون لجذوره ومسقط رأسه علاقة بموسيقاه ، بل على العكس تماماً، إذ أن العالم العربي وسوريا بالذات، عنصر لا يكاد يغيب عن كلمات أغنياته على مدى مسيرته، ابتداء من سنة 2011، مروراً بسنة 2014 التي تعد منعرجا في حياته حيث فارق وقتها دمشق منتقلا للأردن. كان لهذا الحدث, الذي جعل أغنية "قوم وصلنا" حبلى بذكراه، وقع حاد على نفسه، وقع عنيف اختاره نسقا لأغنياته التالية، فأكسبت دمشق قضية لكلماته، وقدمت سوريا ذكرياتا لأسطرها، لتضفي حارة ساروجة أخيرا، نزعة شخصية على الإيقاعات، ترمي بنا في عالم بوكلثوم. هذا العالم، بقدر ما هو ثابت وبه خصائص تمكننا من تمييزه بين العشرات، هو في نفس الوقت عالم مليء بالتحولات الكثيرة التي لم تغيّر هوية بوكلثوم الموسيقية.

 

 

 

 

تبدو موسيقى بوكلثوم الآن أكثر تنوّعا وانسيابا حيث تتعدد الإيقاعات بالأغنية الواحدة، بشكل يمكننا من تمييز المقاطع، على غرار أغنية "دلوني "، وهو ما يدرج خفة ونسقا كانا قد غيبا عن أغنيات صدرت في بداية مسيرته أين طغت حينها الكلمات على الألحان التي تتكرر في الأغنية الواحدة، وهو أسلوب أقرب للراب من الهيب هوب.

 منير بكلثوم ال"delivery boy" الذي حفت قدماه في شوارع الشام إلى أن أجبر على ال"ترحال" فقال "اطوي مدرستي و الحارة بشنتة سفر". فارق سوريا و إن لم تفارقه وسار في طريق مجهولة كمن لا يستوعب الفاجعة إلى أن صحا على صوت يهمس "قوم وصلنا". كانت له رحلة طويلة للأردن، رحلة أنهكته حتى استسلم للنوم بعد الاستماع ل"قصة قبل النوم". واصل رحلته ورأى أحلام يقظة أو لعلها هلوسات صنع منها عالما موازيا سماه "بعبع"، كما لو أنه كابوس عاشه في مركبة فضائية استفاق منه على وجه أنثى. يبدو وجه الأنثى بالنسبة لبوكلثوم عنصرا جديدا يندرج ضمن عالم لم يكن يعرفه. فتعامل معه كما يتعامل طفل صغير مع لعبته المحشوة بالقطن، يحملها معه أينما ذهب ويعكسها على كل ما يعترضه. كذا منير، جعل من المرأة جزأ لا يتجزأ من أعماله التي لحقت "بعبع"، إن كان ذلك على مستوى الشكل حيث اكتسبت ألحانه رقة وإيقاعا راقصا يقطع مع كل ماله علاقة بالفحولة والعالم الرجالي الذي اعتدناه في أعماله السابقة، أو على مستوى المضمون حيث حمّل كلماته معان ترتقي بالمرأة وتعلي من شأنها. أبعد من ذلك، لقد أدخل منير في أغنيته "زاملو" المرأة في معادلة مع الرجل، كان نتاجها أن فضلها على ألف رجل حيث قال (سند أنثى بألف رجال).

 

 

 

 

 

هكذا نكتشف وجها آخر لبوكلثوم، تعتليه ملامح رقيقة وهادئة تحملنا لعالم الأنوثة. عالم يبدو أنه قد اطمأن إليه بعد حرب "بعبع" التي خاض خلالها أكثر من 15 معركة. كانت المصارعة دموية في بعض الأحيان وصلت إلى حد "العزا ومراسم الدفن". سادت على جو "بعبع" نزعة من السادية في أحيان أخرى حيث بدا منير مستعدا ل"يلف جثمانك بشراشف شي تخت" كسفاح ينطق بأمور وحشية ولكن بصوت شجي وذو شخصية.

يقف بوكلثوم من حين لآخر وسط مساره نحو الحلبة و يقول "حط سلاحك نستريح" كما في أغنية "قوم وصلنا"، يقف عندما تجتاحه "صوات براسو " تذكره ب "صوت القصف برا"، فيستفرغ تلك الذكريات كما يشكو مريض علته وهو يئن. لا يجد صوتا للصراخ فيحكي ما يخالج نفسه بعناء في "ليل" وينادي "يا ولاد بلادي بكل ديره كيفنا؟". لبوكلثوم، كما للمحارب، أكثر من حال، قد تنهك طاقته وتخور قواه فتسكنه علة، قد يرتاح من عبئها بالشكوى. في "تسلسل رحله" وسط صحراء مقفرة قد يجد نفسه في "حضرة" "عشق إلهي". يرى وسط ذلك الخلاء رقعة ماء، نور يشع من بعيد يرى فيه شفاءه فيغني "رأيت الرّب بعين عقلي أنا صوفي ...الرّب هنا الله فيزياء روحي".

أحواله متقلبة وسلوكه لا يستقر على حال، هكذا هو منير بوكلثوم، تارة يلبس لباس الفرسان مسلحا بعتاد الحرب كاشفاً عن نصاله وجاعلا من أصوات قطيع الخيل في الغزوات إيقاعا لأغنياته. يظهر لنا تارة أخرى كمتغزل بمحبوبته في زمن نخاله للوهلة الأولى عصر الجاهلية ولكن سرعان ما ترسو بنا رقصة "مي زرقاوي"في أغنيته "زاملوا" في عالم معاصر قد يختار أن يكون فيه منير من مناصري المرأة.

في أحيان أخرى ينتقل لزمكان مغاير تماماً بحركة دوران حول محوره بخرقة صوفية نراه من خلالها درويشا متذللا متزهدا متأملا و حالما.

فارس مقدام في كلماته، درويش في أدائه و فيه من الرقة في ألحانه ما يداعب نفس من ينصت لموسيقاه.

لن نتساءل "أي وجه من هذه الأوجه من شأنه أن يعكس هوية بوكلثوم أكثر من الآخر؟"، فلكل من هذه الأوجه شخصية مستقلة ولها ما يميزها وما يعكس لنا جانبا جميلا من عالم بوكلثوم الذي يغني فيه "لينام الجلاد داخله".