"تسكت الدنيا يتكلّم قلمه" - توفيق بكّار

"تسكت الدنيا يتكلّم قلمه" - توفيق بكّار

Partager

 

كلّ يوم، يرحل عن هذا العالم أحد عظمائه.

ويحكى أنّهم لا يموتون حقّا، باقون بما قدّموا وما تركوا من أعمال وآثار لها وقعها الخاص في تاريخ الإنسانية. لكن، ماذا لو ترك ذلك الرّاحل عنّا مكانا لا يحتمله الفراغ؟

 توفيق بكّار، لا يمكن رسمه دون البحث في ذاكرة كلّ من درس الآداب العربيّة في تونس، كلّ من مسك رواية عن سلسلة عيون المعاصرة، كلّ من تجوّل بين أرجاء معرض الكتاب ومرّ حذو دار الجنوب، أو كلّ من عشق محمود المسعدي، كلّ من اهتمّ بالأدب التونسي فعاد إلى البشير خريّف وطالع علي الدّوعاجي. كما لن يتسنّى لنا رسم هذا الاسم بعيدا عن إبداعات العرب تاريخا وراهنا، انطلاقا من الجاحظ والأصفهاني والمعرّي، مرورا بطه حسين، توفيق عوّاد ومحمود تيمور، وصولا إلى العديد ممّن نالوا شرف تقديمه، إيميل حبيبي، فؤاد التركلّي، إبراهيم الكوني، الحبيب السّالمي وغيرهم.

 

إذا أردنا الحديث عن توفيق بكّار النّاقد، فلا بدّ أن نراجع هذا المفهوم جذريّا. فمفهوم النّقد الذي تعوّدنا على شكله "الاستعلائيّ"، بما هو قراءة فوقيّة لعمل فنيّ ومعالجته ككلّ، يسقط تماما حين نتناول إحدى قراءات توفيق بكّار الذي يحاور النصّ، نثريّا كان أو شعريّا، من خلال مقاربة جدليّة تقوم بتفكيكه من الدّاخل حدّ استنطاقه، لا فقط لإبراز ما يخفيه الكلام، إنّما للوصول إلى نفسيّة الكاتب والحالة التي عانقته أثناء الكتابة. تماما كما فعل مع محمود المسعدي "انطلق المسعدي في كتابه (حدث أبو هريرة قال): «شرقياً» ثم رجع وقد تغرّب وإذا بالعالَميْن يصطرعان في رأسه إلى حدّ «العمى»، وها هو يخرج من الظلمات إلى النور يضرب في الإشراق والتجلّي فعاد «شرقياً» كما كان: فهو، بحكم مسيرته شخص متناقض نصف صوفيّ نصف بروميثيّ، قديم جديد، تراثيّ معاصر على غرار شكل الحديث وأسلوبه، صورة صميمة من الجدلية بين الثقافتين".

 

لم يتوقّف بكّار عند استشفاف جدليّتي "القدم والحداثة" و"الشرق والغرب" من الأعمال التي استغرق في تحليلها، المعاصر منها والتراثيّ، إنما طبعتَا (هاتان الجدليّتان) أسلوبه الخاصّ في الكتابة النقديّة التي كان أحد مؤسّسيها في تونس بالإضافة إلى الجامعة التونسية إثر الاستقلال.  فعلى تبنّيه للّغة العربيّة ودفاعه عنها وعن أصالة أساليبها، فهو لا يعترف في البداية بتقليديّة محتواها ويقدّم النصوص التراثية منها على أنّها أزليّة المعنى وصالحة لهذا الزّمان، كما لم يكتف بمناهج التحليل التقليديّة، بل استمدّ من الأدب الغربيّ مختلف أشكال النّقد والتحليل، ليخلق بالتالي منهجه الخاصّ الذي قدّمه فيما بعد لمن درّسهم ولمن طالعوا مختلف كتاباته خاصّة منها "شعريّات عربيّة" و"قصصيّات عربيّة".

 

ارتحل عنّا توفيق بكّار، جسدا سيفتقده كلّ من لاقاه ومن أراد لقياه، ويبقى روحا تحوم حول الأدب العربيّ نقدا وصناعة.