كفرناحوم لنادين لبكي، طبق شهي يصعب هضمه

كفرناحوم لنادين لبكي، طبق شهي يصعب هضمه

Partager

 

على طريقة فرانسوا تروفو، انتهى فيلم كفرناحوم لنادين لبكي بتوقف عند الصورةArrêt sur image على وجه زين بطل الفيلم، وعلى إيقاع بازوليني في تيوريما، انطلق باللّقطة التي تسبق النهاية كمشهد ما قبل جينيريك البداية، ثم سرعان ما تطايرت الكاميرات، لنشاهد لأكثر من مرة، لبنان من فوق.

هذه ال"من فوق" ستحدّد فيما بعد مسار الفيلم، حتى في لحظات تصويره في القاع.

 

 

 

 

زين، هو طفل في الثانية عشر من عمره، يعيش كلّ أهوال الفقر والاستغلال، وسط عائلة لا تكترث سوى بالبقاء، مهما كانت السبل والوسائل. شخصية معجزة، تتحمّل مسؤوليتها ومسؤولية كل من يعترضها ويحيط بها، لتكون الخيط الرابط بين كل المواضيع التي طرحها أو مرّ بجانبها الفيلم، من زواج القاصرات إلى الاتجار بالبشر واللاجئين السوريين وتشغيل الأطفال وأزمة أوراق الثبوتية وأطفال الشوارع والأحياء القصديرية بلبنان. كلّ هذا، يتقدّم لنا على طبق واحد نحن مجبرون فيه على أكل كلّ شيء، وأبعد من ذلك، نحن مطالبون معنويّا بهضمه، حتى لو لم نعرف شيئا عن أصول الأكلات ومكوّناتها.

إذا كان الغرض من الإلقاء بنا وسط هذا البحر من السواد دون سابق تمهيد من خلال البناء الدرامي أو التأصيل المرجعي، هو إضفاء صبغة كونية على الفيلم حتى يتمكّن من تمثيل أوجاع البشرية واختصارها، فهو غرض أقل ما يمكن القول عنه هو أنّه "ساذج"، ليس فقط لأنّ السينما كفن ليست بوقا للإنسانية جمعاء، بل هي صوت الفرد في جميع تجلياته، لكن أيضا لأنّ بناء الفيلم في حد ذاته كان مختلّا، لا يضيع أية فرصة لاستعطاف المتفرّج وشحذ دموعه بطريقة تفرغ القصة من صلابتها كواقع تتعدّد أشكال قراءته، جاعلة منها حالة وجب الإشفاق عليها. كلّ هذا، من خلال التعسّف على مجرى الأحداث بإيقاع قويّ ومتسارع، لا يترك الفرصة للتمعّن فيمن نلتقي بهم على مسار الفيلم، ولا في الحالات التي تضمحل تفاصيلها في الرغبة البحتة في التعرض إليها، دون استناد ذلك على أيّ منطق درامي، ما يدفعنا بالضرورة إلى ترك الفيلم والذهاب إلي قراءة نوايا المخرجة التي، رغم كلّ هذا، هي تعي جيدا ما تفعل.

 

kfrnhwm_lndyn_lbky_tbq_shhy_ysb_hdmh1.jpg

 

يتراوح الفيلم بين مشاهد الخارج، أي كلّ الأماكن التي نتابع فيها زين خلال مختلف مغامراته، وبين المحكمة، وهي حاضر الفيلم واللحظة التي تتواجه خلالها العائلة أمام القضاء، منقسمة بين أبوين يبرّران ما حصل بأبنائهما، وابن يشكوهما للعدالة لفكرة أنّهما قد أحضراه للعالم طالبا منهما عدم انجاب أطفال مرة أخرى. تم تصوير أحداث المحكمة باستخفاف كبير، ليس فقط لأنّنا في الكثير من اللحظات نخرج عن السبب الرئيسي لهذه المحاكمة، لفتح ملفات أخرى قد قضي أمرها خلال الفيلم، لكن أيضا لأنّنا لا نشعر في أي لحظة بوجودنا ضمن محكمة، بل في جلسة عائلية، يمثّل فيها القاضي دور كبير العائلة الغائب منذ سنين والذي يحاول فهم الأمور حتى يستطيع حلّها. يتجادل أطراف القضية فيما بينهم ويكتفي القاضي بالتفرّج وطرح السؤال أحيانا.

 

في المحكمة، تلعب نادين لبكي دور محامية "زين"، لا نعرف إلى أي مدى وجب التفريق بين المخرجة والممثلة في الفيلم، لكن الأكيد أنّ هذا الخيار ليس عفويّا ككلّ أحداث الفيلم وتفاصيله. هذا الدور الذي تمثّله المخرجة، كان الشخصية الأضعف في الفيلم، الأقل حركة والأقل كلاما، كما أنّها موافقة على كلّ ما يتفوّه به زين موكّلها. هذا الموقف، من شأنه أن يستفزّ الكثير من القراءات، لعلّ من بينها عدم قدرة لبكي أن تكون جزءا من القاع الذي مهما نزلت إليه ستبقى نظرتها له فوقيّة وسطحية، ولعلّه أيضا، يعكس بقوّة توافقيّتها المفرطة في معالجة مسائل سياسية بامتياز، حيث غيّبت الدولة تماما من قصّة الفيلم ووقع حمل كلّ المصائب على الفقراء الذين ينجبون أطفالا رغم فقرهم.

 

kfrnhwm_lndyn_lbky_tbq_shhy_ysb_hdmh2.jpg

 

لا يحمل الفيلم أيّ تساؤل ولا يدعو بأيّ شكل إلى التفكير، حيث اكتفى بعرض الأمور كما هي، مبتعدا عن كل ما يمكنه أن يثير الجدل حوله أو حول صانعته، ليكون بذلك مفرغا من كلّ عمق، كما لو لم يكن الفيلم موجّها إلى الناس الذين يشكلون محوره، بل إلى أناس آخرين من شأنهم أن يجدوا به غرابة تثير حماستهم. ليست لبكي مطالبة بأي شكل، أن تعكس الحقيقة كما هي أو أن تكون على مستوى انتظارات الجميع، لكنّها فقط مطالبة بالإقناع وبالصدق الذي نشك فيه خلال الكثير من مراحل الفيلم، خاصة وأنّ مرجعيّته السينمائية تعود بشكل واضح إلى مدرسة الواقعية في شتى حركاتها، ما لا يبرّر العبث بالشخصيات بطريقة لا منطقية، واستعجال السعادة بتكديسها كتلة واحدة كنهاية عاطفية مصطنعة.

 

كلّ ما سبق ذكره، لا يمنع جماليّة ما وجدت في الفيلم، وخيارات صائبة في طريقة التصوير والإضاءة، مع نجاح أغلب الممثّلين وتألّق زين الرفيع. بالإضافة إلى مشاكل النص، نجد فشلا ذريعا على مستوى الموسيقى التي لم تنصهر في أي لحظة مع أجواء الفيلم، رغم تعوّد خالد مزنّر بالعمل مع لبكي في أفلامها السابقة ونجاحه الباهر في ترجمة قصصها إلى موسيقى.

نادين لبكي، هي مخرجة ذات طابع سينمائي خاص عرفت به في فيلميها السابقين، كاسرة إياه هذه المرة لتثبت نضجا ما لا يمكن إنكاره. لا ننكر أيضا ذكاء سينمائيا ما جعلها تجتاز كل فخاخ السياسة، لكنها لم تدرك أن فخ الإنسانية أكبر بكثير وأن  الوقوع فيه هو اكبر المآزق.