مسرح الجمّ: حصن للمقاومين على مرّ التّاريخ

مسرح الجمّ: حصن للمقاومين على مرّ التّاريخ

Partager

 

 

مع اقتراب الموعد السنوي "للمهرجان الدولي للموسيقى السمفونيّة بالجمّ"، أردنا العودة إلى الجذور التاريخيّة لهذا الصّرح العظيم ومكانته في تونس وفي العالم.

 

خلّد التّاريخ العديد من نزوات الحكّام، فكان منها ما ترك حروبا وصورا بشعة في الذاكرة ومنها ما صنع عجائب تبهر العالم.

 

مسرح الجمّ، هو أحد هذه النّزوات، ففي حركة تمرّد على إمبراطور روما، قرّر القائد الرّوماني جورديان الثاني، بناء هذا المسرح بمقاييس جماليّة تفوق أحيانا قصر الكوليزي، إلّا أنّه يصغره حجما.

 

تمّ تشييد قصر الجمّ في بداية القرن الثالث ميلادي، ولعب دورا ترفيهيّا بالأساس من خلال إقامة العروض المفتوحة للجمهور من العامّة والنّبلاء في تلك الفترة، واستخدم أيضا كسجن للمجرمين. يمكن فهم كلّ هذا والغوص في تفاصيل كلّ الأنشطة التي كانت تقام هناك، ليس فقط من خلال كتب التاريخ، لكن أيضا من خلال الفسيفساء، فهو مكان يتحدّث عن نفسه. تبيّن الفسيفساء تطوّر العروض التي كانت تقام في ساحة المسرح، منذ انطلاقه بطريقة مسالمة تعتمد على ترويض الوحوش، حتّى تحوّلها إلى ألعاب دمويّة تقوم بالأساس على القتال بين المصارعين أو بينهم وبين هذه الوحوش كالأسود والدّببة والفهود. ألعاب تؤثثها الأسلحة الحادّة ومشاهد القتل الكثيرة.

 

شهد القصر تحوّلات عدّة على مرّ التّاريخ، وبعد إيوائه لأسرى الحرب وللمجرمين من المجتمع، تحوّل إلى ملجئ للمقاومين في العديد من الحقب التاريخيّة التي عرفتها تونس على مدى قرون، فاحتمت فيه البيزنطيّون في محاولة للتصدّي للجيوش الإسلاميّة بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي سرح سنة 647. لم يمض الكثير من الوقت حتّى احتضنت أقواس الجمّ وأقبيته الكاهنة وجيشها خلال معركتها الثانية مع حسّان ابن النّعمان، وقد اتخّذ المسرح اسمها ليصبح "قصر الكاهنة" أحد ألقابه.

 

عرف هذا الصّرح باستثنائيّة صموده التاريخيّ رغم العديد من الهجومات التي تعرّض إليها على مرّ التاريخ. فقد تمّ تهديم جزء كبير من جانبه الأيسر حين اختبأت بين أسواره مجموعة من المتمرّدين على حكم محمّد باي (أحد حكّام الدولة المراديّة) سنة 1695، كما عرف هجوما شبيها أثناء الثورة التي أقيمت ضدّ حكم أحمد باي سنة 1850.

 

 رغم كلّ هذه الانتهاكات، واصل المسرح دوره في تحصين المقاومين، فقد احتمت به حركة المقاومة خلال دخول الاستعمار الفرنسيّ لتونس واحتضن المحاربين الألمان أثناء الحرب العالميّة الثانية، ما عرّضه لهجوم انكليزي في تلك الفترة.

 

كلّ هذا، وقد بقي قصر الجمّ أحد أكثر المعالم محافظة على شبابها وبريقها مقارنة بالعديد من الآثارالمماثلة في العالم وخاصّة بنظيره الكوليزي بروما. كما عرف بعض التدخّلات المعماريّة منذ بداية القرن العشرين، بالإضافة إلى إدراجه بقائمة مواقع التراث العالمي لدى منظّمة اليونسكو سنة 1979.

 

يحتضن الآن قصر الجمّ أحد أهمّ المهرجانات في تونس والعالم العربي وهو "المهرجان الدولي للموسيقى السمفونيّة بالجمّ"، الذي تنطلق في شهر أوت القادم دورته الثانية والثلاثون.