أجرت مسك حوارا مع المخرج التونسي النوري بوزيد، للحديث عن تجاربه السينمائيّة وعن أحداث تحيط بأفلامه، لم يقم يوما بالإعلان عنها.
مرحبا
أهلا
|هناك الكثير من المحبّين لأفلامك والكثير من الكارهين لها ايضا، لكن الجميع يتفق على أنّ السينما الخاصّة بك، هي سينما مختلفة، كسرت الصورة التي تعوّد عليها الجمهور وقدّمت جماليّات وحتى مواضيع جديدة لم نعهدها في التجارب السابقة. أي نظرة للسينما أتيتم بها بعد الدراسة في بروكسيل؟
أهمّ ما يمكن أن أبدأ به هو أن التجديد في الأسلوب والتجديد في المحتوى انطلق معي "مع بناء الشخصيات، في مفهوم جديد في التصرف جديد الأسلوب جديد في الهدف. أحيانا أو تقريبا في كل أفلامي، الأبطال، هم أناس خاسرون، مقموعون ، معتدى عليهم و من قاع المجتمع. لم أقم بأي فيلم عن أناس منتصرين. المهمّ بالنسبة لي هو كيفية الخروج من الأزمة، لا أريد نجاحا متخيّلا، هذا لا يهمني، أريد الحديث عن الحقيقة التي نعيشها، والتصرف في الشخصية خاصة عندما تكون شخصية شاعرية مثل فرفط في الريح السد. أريد أن أعطي قيمة للمنبوذ والفاسد لأن الناس ليسوا متسامحين ولا يقبلون الاختلاف. يجب قبول الشخصية في تصرفها الحقيقي، لا يوجد عيب ولا توجد إساءة للشخصية فهي على المستوى الدرامي هي أغنى كثيرا من الآخرين.
قبل أن نتقدّم في السينما، أود الحديث عن جانب آخر في النوري بوزيد وهو كونك كاتب، حيث أنّك، بالإضافة إلى أفلامك، قمت بالمشاركة في كتابة سيناريوات مجموعة من أهمّ الأفلام التونسية مثل صمت القصور، باب العرش، حلفاوين، سلطان المدينة وغيرهم. أيّ هذه الأفلام كان الأكثر وفاء لكتابته الأولى ووجدت فيه تطابقا مع ما انتظرت مشاهدته على مستوى الصورة؟
مفيدة التلاتلي، هي شخص يحترم عملي جدا، هي ليست مسألة احترام في الحقيقة، لأننا نوقع السيناريو معا، ومن حقّها أيضا حتى أن لا تستشيرني، أنا أيضا مخرج وأعرف جيّدا أن الاخراج هو مرحلة خلق، تجمع بين ديكور وممثّلين ونصّ، هناك أناس لم تلتق أبدا مع بعض، فيجدون أنفسهم معا متقمّصين شخصيّات وأدوار مختلفة، كلّ هذا من شأنه أن يخلق سحرا كبيرا، لذا، لا يمكن أن تطلب من أيّ مخرج، كما في السينما الأمريكية، أن لا يغيّر شيئا في السيناريو. نحن نريد أن نغيّر، لأنّنا لسنا بصدد تقديم فيلم للسوق العالمية بضغوطات هذه السوق، هناك ضغوطات ثقافة، ضغوطات صدق وضغوطات أن تكون شاهدا على عصرك، عندما يشاهد أحفادي فيلما يجب أن يعلموا في أيّ فترة تمّ صنعه.
على ذكر مفيدة التلاتلي، لقد تعاملتم معها في كلّ أعمالها السينمائيّة. ماهي الخصوصيّة في سينما مفيدة التلاتلي التي تجعلك تجدّد العمل معها في كلّ مرّة؟
أنا ومفيدة نتقاسم الكثير من الأمور، في البداية هناك الاحترام المتبادل، هي تحترم السيناريو وأنا أحترم الإخراج. ثانيا، مفيدة تأتي من قلب السينما، فهي ابنة مدرسة التركيب، لذلك هي لا تخطئ عند التصوير، هي تصور أشياء للبناء. هي بالتالي متخرجة من مدرسة مهمة جدّا، فالتركيب هو أحسن مدرسة للكتابة والإخراج. أما أهمّ ما يجمعنا، هو أنّ الشعور الذي نشتغل – فريد لا- (فريد بوغدير) به هو "الألم". الألم هو مصدر إلهامنا ومصدر طاقتنا أيضا، ألم الشخصيات هو محرك أفلامنا، هذا ما يجمعنا.
أي السيناريوات التي كتبتها وتمنيّت لو كنت أنت من قمت بإخراجها؟
لم أقل هذا أبدا وأخجل جدّا من قوله، فالفيلم الذي تمنّيت إخراجه هو فيلم "عيون أمّي" لمفيدة التلاتلي، فكّرت أن أطلب منها ذلك لكنّي لم أجرؤ، فهو ملكها، لكن عندما لم تستطع هي القيام بإخراجه، راودتني رغبة ما في أن أقوم به بنفسي.
بالاضافة إلى السينما أنت أيضا شاعر، هناك مخرجين مهمّين في العالم كانوا أيضا شعراء مثل بازوليني و … (يقاطع)
« بازوليني نعشقو" ، فيلّيني وبازوليني أهمّ أفضل سينمائيّين بالنسبة لي. لقد أردت أن أقوم بقطيعة معرفيّة، وتأثرت ببازوليني في هذه النقطة، فهو يدافع دوما عن فكرة وجود شرّ أين تعوّدنا أن نجد الخير، أنا أيضا أؤمن بهذا كثيرا.
بالنسبة للعلاقة بين الخير والشر، بازوليني أيضا كان متأثّرا بفلسفة ماركيز دي ساد، التي من بين أهمّ أسسها، هو عدم قدرة الإنسان على الوصول إلى الخير دون المرور بالشر. هل هناك فيلسوف أو كاتب يؤثّر بشكل مباشر في أعمالك السينمائية؟
أحبّ نجيب محفوظ كثيرا، لكنّه لا يؤثّر في السّينما بقدر ما يؤثّر في قوّة كتابة الشخصيات، أحبّ الثلاثيّة كثيرا، وقمت بحصّة تحليل مع أصدقائي في السّجن. نجيب محفوظ كان بارعا في الكتابة والأسلوب ولكن خاصّة في البناء، البناء مسألة مهمّة جدّا خاصّة في كلّ ماهو روائي، يجب أن يكون محكما، كي لا يترك لك فرصة للتوقّف عن المشاهدة أو القراءة.
أين يلتقي الشعر والسينما في أفلامك؟ أيهّما يلهم الآخر؟
عندما تمّ سجني بتهمة التآمر على أمن الدولة، لم يكن بوسعي أن أقدّم مشروع فيلم للحصول على منحة وزارة الثقافة، فقرّرت كتابة الشعر. استغرب الجميع لذلك، فأجبتهم بأنّي سأكتب شعرا كالسينما، فيه صور وأصوات. لما تغيّرت الظروف، تم قبول أفلامي في لجنة الدّعم، حيث كانوا حينها يقبلون أفلاما حتى ضد السلطة، وقد ساندني حينها الكتاب والمنتجين والجامعة التونسية للسينمائيين الهواة والجامعة التونسية لنوادي السينما والجمعية التونسية للنهوض بالنقد السينمائي.
في العلاقة بين الشعر والسينما أذكر مثلا أنّ "صفايح ذهب" كان مستوحى من قصيدة "أركض يا حصان"، لأن الحصان كان يربح دوما حروب غيره، كما استوحيت فيلم "بزناس" من قصيدة "زاير قديم".
بعد إخراجك ل"بزناس"، تم اتهامك بأنّك قمت به بما يتماشى وتطلّبات السوق الأجنبيّة
بزناس هو فيلم "ناج"، فقد سحبوا منا الدعم بعد منحنا إياه، وأجلوا رخصة التصوير إلى الخريف وهو من المفروض أن يكون في الصيف. لم تكن معي الميزانية الكافية لتصويره وعدلت في لحظة ما عن فكرة تصويره، لكني قررت بعد ذلك القيام به كحركة مقاومة، لكني أعترف بأنّه كان من الممكن أن أقوم به بشكل أفضل.
ريح السدّ، هو فيلم مكثّف، يسائل العديد من المواضيع، و يفكّر في مواضيع جريئة جدّا. أين يبدأ الجانب الشخصي في هذا الفيلم وأين ينتهي؟
عند خروجي من السجن، كان هناك أمران اثنان يسكنانني، هما جروح الطفولة وجروح الكهولة، وهما جرحين يكوّنان الشاب التونسي. لقد مررنا جميعا بتجربة التحرش. لقد كان الطفل يعوّض غياب المرأة في مجتمعنا، فهم من يبنون شخصيّته وهم من يحطّمونها. في الكتابة الأولى لم تكن شخصيّة فرفط موجودة، لكنّي فيما بعد قمت بخلقها من شخصيّة هاشمي لتكون مرآته. لقد قاموا بنقد الفيلم واتهامه بعديد التهم جرّاء شخصيّة اليهوديّة، لكنّه كان في الحقيقة أقرب شخصيّة إلى الواقع.
بالنسبة للتجربة الشخصيّة، فقد عشت التحرّش في طفولتي، وهي تجربة أرهبتني، إن كان ذلك في الطفولة (في الحمّام) أو في السجن.
هل تعيد أحيانا رؤية ريح السدّ؟
سأحدّثك عن أمر لم أقله أبدا. مؤخرا طلبت مني ابنتي الصغرى أن تعيد مشاهدة جميع أفلامي معي، وقد أصرّت على ذلك مع علمها بأنّي لا أعيد مشاهدة أفلامي أبدا. قبلت ذلك بعد مدّة لأنّها كانت تستعدّ للسفر. ما لاحظته عند مشاهدة ريح السد، هو أنّني قمت بسرد قصّة شخص كبير بوعي طفل صغير، وأنّ من أخرج الفيلم هو الطفل الذي بداخلي وليس الكهل الواقف وراء الكاميرا « فرخ صغير يلعب بمواضيع كبيرة ». هذا ساعدني على الإيمان بأنّ الطفل الذي بداخلي والذي حاربت دوما لأن لا يموت، قد هزمني.
في حال كنت ستقوم اليوم بإخراج ريح السد، هل كنت لتكتبه وتصوّره بنفس الطريقة؟
أبدا، أنا اليوم أكثر عقلانية من قبل. لو كنت سأكتبه اليوم كنت سأحذف الكثير، من نوع أن لا ينتقم البطلين أخيرا. « توة المتفرّج تربى"، هو يشاهد الكثير من العنف يوميّا، لذا كان سيكون الفيلم أقلّ عنفا بكثير، كان ربّما للأبطال أن يدفنوا سرّهم في صمت.
أنت من بين المخرجين المعنيّين بمشروع السينماتيك، ما رأيك في هذا المشروع؟ خاصّة وأنّه يأتي متأخّرا بعض الشيء بما أنّ السينما التونسيّة تتجاوزه بأكثر من خمسين سنة، ما يجعله أمام تحدّيات غير محدودة.
هذا مشروع قديم، له أكثر من ثلاثين سنة، لكنّ مفهومه عند البعض كان خاطئا، هم يعتقدون بأنّ السينيماتيك هي مجرّد قاعة لعرض الأفلام، لكنّها في الحقيقة أرشيف وذاكرة. من المهم أن يعود المشروع، لكن لا أحد يعلم أين توجد النسخ الأصلية للأفلام، لأن الرقمنة تنطلق منها. هناك العديد من الأفلام التي لم يعد لها أيّ أثر.
كي ينجح هذا المشروع يجب أن يشرف عليه مجنون بالسينما.
أنت بصدد القيام بفيلم جديد. صحّ؟
نعم لقد أنهيت السيناريو، لكنّي قمت مؤخّرا بإجراء عمليّة جراحيّة فاستوجب لي أن أرتاح، فقمت بتأجيل التصوير. أحبّ كثيرا هذا الفيلم وهو بعنوان "قتلوني فوق ماتتصوّر"، وهي أيضا قصيدة.
ماهو موضوعه؟
هي قصة فتاة تعود من سوريا بعد أن تمّ اغتصابها من قبل أمير الكتيبة. لقد زجّ بها زوجها هناك، ونعلم أخيرا بأنّ والدها متورّط في ذهابها أيضا. كلّ هذا مستوحى من قصّة حقيقيّة.
شكرا جزيلا وبالتوفيق
العفو.