كان يكتب عن نفسه لأنّه يحبّ النّاس.
هو هنري ميلر، غادر العالم قبل 37 عاما من الآن. كاتب و رسّام وعازف بيانو، عاش حياة في مرتبة الأثر الفنيّ.
من خلال عنوان كتابه عن الرّسم "أن نرسم هو أن نحبّ مجدّدا Peindre, c’est aimer à nouveau"، يمكن أن نفهم الكثير عن فلسفة ميلر العاشق للحياة التي يجدّد حبّه لها دوما، وإن كان ذلك في عمر متقدّم، كالذي تفرّغ خلاله للرّسم.
"تعريفي للرّسم هو أنّه بالأساس عمليّة بحث. كأيّ عمل خلّاق. في الموسيقى، نعزف نوتة لتخلق هذه الأخيرة نوتة أخرى في حركة محّددة للحركة التي تليها. من وجهة نظر فلسفيّة، يجب أن نعيش الحياة لحظة بلحظة ونجعل كلّ لحظة محدّدة للتي تليها."
هذا هو ميلر الذي صرّح بأنّه من الممكن أن يكتب لآخر حياته، لا يعرف الملل، ويعتبر أن الهدف الرئيسيّ من الحياة، هو أن نعيشها. كانت هذه الفلسفة في البداية دافعا رئيسيّا لمجونه الأدبيّ، وشكّلت فيما بعد سببا للرّفض المتبادل بينه وبين بلده الولايات المتّحدة الأمريكيّة. فقد رفض هنري سياسة هذا البلد ومجتمعه القائمين على الثقافة الاستهلاكيّة بالإضافة إلى ميكانيكيّة التعامل بين النّاس. ورفضت أمريكيا في المقابل أولى كتاباته "مدار السّرطان Tropique du cancer" الذي نشر سنة 1931 في فرنسا، ما أدّى به إلى المحاكمة في أمريكيا بتهمة الفحش بموجب القانون الذي يمنع المواضيع الفنيّة ذات الأبعاد البورنوغرافيّة في تلك الفترة.
قضّى ميلر شبابه ماجنا ومعربدا، واشتغل في الأثناء في العديد من المجالات، كما لم يتقدّم كثيرا في الدّراسة، بل كان عصاميّ التكوين، قارئ كبير ساهم حبّه للمطالعة في أن يصبح هذا الكاتب, فقد تأثّر كثيرا بالأديب النورفيجي نوط حمسون Knut Hamsun كما أحبّ بلاز سوندرار Blaise Cendrars الذي اصبح فيما بعد صديقه المقرّب وأحد المكتشفين الأوائل لموهبته الأدبيّة.
واصل ميلر الكتابة بطريقة يصعب تصنيفها كجنس أدبيّ، فهي ليست رواية، ولا سيرة ذاتيّة بأتمّ معنى الكلمة ولا حتّى يوميّات شخصيّة. هي كتابات مستوحاة بشكل مباشر من حياته ومن نظرته الخاصّة للعالم. فقد تراوحت كتابة مدار السرطان بين مغامرات ميلّر أثناء مراهقته في بروكلين واستحضار لمختلف العلاقات التي عاشها، انطلاقا من حبّه الأوّل أونا جيفورد Una Gifford، مرورا بمعلّمة البيانو التي تكبره ب15 عشرة سنة، انتهاء بتجربة الزّواج الفاشلة من بياتريس Beatrice. كما تحدّث في The air conditioned nightmare عن جولته في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وعن كرهه لهذا البلد "لم أجد أبدا حياة مملّة ورتيبة كالتي هنا بأمريكيا"، كتاب رفضته عشر دور للنّشر. كتب ايضا colossus of Maroussi عن رحلته إلى اليونان معتبرا إيّاه أجمل كتاباته و Quiet Days in Clichy عن حياته في فرنسا التي رحّبت به ككاتب. كما قدّم بورتريه لمدينة بيغ سور Big Sur في كاليفورنيا التي أمضى فيها النّصف الثّاني من حياته مع إبنيه توني Tony وفال Val.
حفلت كلّ هذه الكتابات بالمغامرات الجنسيّة الشيّقة لميلّر في أسلوب تميّز بالطابع الإيروتيقيّ الذي عرف به وجعل منه ليس فقط متحرّرا إنّما محرّرا للأدب الأمريكي من "العففيّة" الأخلاقيّة من خلال ربحه لقضيّة مدار السرطان سنة 1960 والاعتراف به رسميّا ككاتب يحمل أسلوبا خاصّا يجب احترامه.
كلّ هذا، كان مدفوعا بحبّين: حبّه للحياة، وحبّه الأكبر للنّساء. فقد عاش ميلر حياة جنسيّة مثيرة للدّهشة نظرا لكثافتها وتواصلها حتّى سنواته الأخيرة. لكن، يبقى المحرّك الأساسيّ لعمليّة الإبداع المتواصلة في حياة ميلر، هو قصص الحبّ. انطلقت مع زوجته الثانية جون June التي ألهمته كثيرا في أولى أعماله فذكرها دوما خلال هذه الكتابات باسم مونا Mona، إلى الكاتبة الشّهيرة آناييس نين Anaïs Nin التي تواصلت علاقته بها أكثر من عشرين سنة، شكّلت الرّسائل خلالها منبعا أساسيّا للإلهام وسببا لاستمرار العلاقة، كما تشكّل الآن أحد أهمّ المراجع الأساسيّة لفهم سيرتهما الذاتيّة وما عاشاه من قصّة استثنائيّة في تاريخ الأدب والفنّ.
هنري ميلّر وغيره من كتّاب الحياة، تعتبر كتاباتهم رحلة نحو أجسادنا المقيّدة، وتحريرا لعقولنا من أعباء الأحكام المسبقة. تبقى أعمالهم نقاط تحوّل في التّاريخ لا يمكن للزّمن أن يتجاوزها.