الكازما" في الكازما: إجابة على سؤال الثقافة البديلة"

الكازما" في الكازما: إجابة على سؤال الثقافة البديلة"

Partager

 

على ضفاف مهرجان قابس للسينما وعلى ضفافه بحر قابس، يحدث أمر غير مسبوق. هذا البحر الملوّث، الذي أبعد مرتاديه عن أمواجه، ورسم حدودا على شاطئه ليتوّقف سكّان المنطقة على حتى يتأمّلوه، بحنين ربّما إلى أيام كان حيّا مليئا بالناس، أو مغرمين عشّاق، يلتقون على حافّته بعيدا عن الأنظار. بحر الكازما لذي تحوّل إلى نقطة تأمّل، لما وراءه، أعاده كل من مالك غناوي وفاطمة كيلاني إلى سببه الأوّل، أن تجتمع الناس حول نفسها، وحول ما تعيشه.

 

« الكازما" هو اسم المكان وعنوان التظاهرة، التي تتمثّل في وضع تسع حاويات على الكورنيش، تشكّل كلّ منها زاوية نظر مختلفة عن غيرها، لوضع تونس الرّاهن. في كلّ حاوية هناك فيديو يبسط فيه كلّ فنّان من المشاركين، نظرته الخاصّة لذاته، لتونس أو للعالم، من خلال تصوير حدث أو ذكرى ما.

 

 

كلّ من هذه الأعمال، يقدّم قراءته الخاصّة بأساليبه وتقنياته الخاصّة، وإن كانت كلّها ذات منطلقات واقعيّة، فهي أبعد ما يكون عن الواقع في تركيبتها الشكليّة، لهذا، هي لا تسائل فقط هذا المجتمع وسياسته، إنّما تطرح إحراجات جماليّة أيضا، تدور حول كيفيّة صنع الصّورة، وبأيّ آليّات يمكن قراءتها.

 

إذا كانت المنطلقات التي تساعدنا على تحليل ما يقترحه إسماعيل بحري في Revers، هي منطلقات فلسفيّة بالأساس، تعالج فكرة التلاشي وتجسّدها في فعل واحد يتكرّر عشرات المرّات، فإنّ ما يفكّ لغز The red can لأمين مسعدي هو اليوميّ. ليس يوميّ شخص عاديّ، إنّما جزء كبير من حياة الذين اختاروا المخاطرة على الأمان من أجل العيش، وإن كانت السّرعة القصوى هي أحد خصوصيّات هذه الحياة الخطرة، فإنّ أمين قرّر إيقاف حركتها وتحريك وقتها على مدى 24 ساعة.

يحضر ابن المقفّع بقوّة في عمل مالك قناوي Dead meat moving، الذي يضع قدر البشر والحيوان على طبق واحد، من خلال تجسيد الأوّل بالثاني، مخضعا هذه الصورة إلى قراءة، ليست كما لدى ابن المقفّع نقديّة، إنّما يلبسها مالك صبغة تراجيديّة. أمّا إذا كانت التراجيديا، مرتبطة بالأساس في مخيالنا العام بالنّهاية، فإنّ فيديو مالك قناوي يجعل منها فعلا يوميّا متكرّرا بنفس الرّوتين والحدّة، يقع على كلّ من اتّبع القطيع وحتى من لم يفعل.

 

إذا كانت الأعمال المذكورة تجسّد وقائع وتقدّم أجوبة حولها، فإنّ نضال شامخ حوّل من عمله نقطة استفهام خانقة، حول العبث الذي يشكّل راهننا ومستقبلنا، خاصّة في ما يتعلّق بالهجرة والمنفى. وهو من جهة أخرى، قد قدّم إجابة متعلّقة بالفعل الإبداعي، وهي قدرته على تحويل حدث خاصّ إلى واقع مشترك وعامّ. كلّ هذا، على عكس فخري الغزال، الذي يتنحّى تماما عن المشهد، لا سائلا ولا مجيبا. حين نتوقّف عند فيديو "هاني لتالي"، نحن أمام ما يدور برأس فخري. يمكن قراءة صوره على أنّها يوميّات مصوّرة أو مقتطف من سيرة ذاتيّة، لكن عند التمعّن في طريقة تصويرها، تركيبها ومزجها مع الموسيقى، نجد أنّنا مدعوّون إلى لاوعي صاحبها، أو على الأقلّ، إلى رواسب من الصور التي تتكرّر كلّ يوم في الأحلام والكوابيس، نحن في الحقيقة أمام لحظات مارّة لكنّها فارقة، هي أحداث تقع في المرتبة الأولى بين الأمور التي يسهل نسيانها، وهي في نفس الوقت ما يحدّد شخصيّاتنا ويركّبها. ربّما يكون "هاني لتالي" الأكثر واقعيّة في ظاهره، لكنّه مثقّل ببعد روحانيّ ما، كأنّنا مجبرون على رؤية هذه الأحداث المألوفة بشكل مختلف، بحنين أو بمناجاة.

 

 

تجربة "الكازما"، نجحت في أن تستوعب الناس، في إطار مكانيّ عام ذو رمزيّة كبيرة، وهي ضرورة الذهاب إلى الجمهور دون انتظاره، ومكان خاصّ ذو رمزيّة أكبر، التي تستوعب هذه المرّة الفنّ والرّاغبين في اكتشافه، دون أن تكون كما كانت دوما، وسيلة هرب أو انتحار. لقد كانت هذه التظاهرة الأكثر نجاحا، على مستوى الإقبال واستفزاز الفضول والنّقاش. هي أيضا تطرح سؤالا حول الإرادة الفعليّة لثقافة بديلة تونس، بعد أن تعلّمنا منها بأنّ الفعل الثقافيّ هو إرادة بالأساس.