تلج الساحة الصغيرة أمام قوس باب بحر، ويُخيّل إليك في البداية أنّك أمام متاهة تعجّ بالناس والمتسوقين، لكن بمجرد دخول الزقاق المؤدي إلى جامع الزيتونة فأنت في الاتجاه الصحيح. تُواصل سيرك على الأقدام متجاوزاً الحرفاء أمام دكاكين الجلد وباعة الذهب والصناعات التقليدية، وكلّما أحسست أنّك تقترب من المكان المطلوب، تُعيد سؤال أيّ بائع يعترض سبيلك: من فضلك أين زقاق سيدي صابر؟
الزقاق، خلافاً لكلّ توقع، معروف لدى الباعة، والإجابة دائماً: "استدر يميناً بعد تجاوز مركز الشرطة بزقاقين آخرين". تُواصل سيرك إلى الهدف المطلوب، وحين تُشارف على الوصول تقوم بالاستدارة يميناً تجد نفسك أمام باب عتيق لونه بني معتق. هذا الباب يُخفي خلفه مكتبة ديوسيزان (diocésaine) المغمورة، ذاك العالم الكامن وسط صخب الأسواق واكتظاظ الباعة والحرفاء.
تقترب من لوحات الإرشادات على جانبي الباب، وتتأمل شحوبها بعد أن أكل عليها الدهر وشرب، كُتب عليها باللغة الفرنسية (école primaire/ bibliothèque diocésaine). فقد كان هذا المكان في السابق مدرسة ابتدائية للبنات ومتخصصة في تعليم الدين المسيحي.
تدق الجرس بحذر فيجيبك صوت موسيقى الانتظار. لحظات ويفتح الباب أوتوماتيكياً بشكل ملؤه العفوية الصادرة عن باب قلّما يُفتح في أوقات العمل. تدفع الباب بأظافرك والحذر يحفّ حركة ساقيك وأنت تتجاوز عتبة الدخول مشدوهاً فاغر الفاه. لكن ذلك يتحول إلى شعور بالأمان بمجرد لقائك بكريمة، المشرفة على إدارة المكان في هذه الفترة.
كريمة الفتاة السمراء تُدرك سلفاً هيبة المكان والرهبة التي يشعر بها كلّ زائر له، ولذلك تستقبلك بابتسامة مفعمة لتزيح عنك عبء الصدمة الأولى، قبل أن تسألك عن سبب قدومك، فتُجيب "أنا صحفي ولا أعرف المكان، سمعت أنّه مكتبة متخصصة في الأديان المقارنة وخاصة الديانة المسيحية في تونس وشمال أفريقيا، وأريد لقاء أحد المتخصصين لاستفساره حول بضع نقاط". تصمت كريمة برهةً ثمّ تردّ "لا أحد من المشرفين موجود، لكن الباحثة في التاريخ المعاصر سامية النابلي يمكن أن تُجيبك عن أسئلة عديدة حول المكان ومؤسسيه وغيرها من التفاصيل".

أولى الأسئلة الموجهة إلى سامية النابلي الباحثة المتخصصة في تاريخ الآباء البيض (les pères blancs) كان متعلقاً بأسباب عدم معرفة قطاع واسع من الطلبة والباحثين والقرّاء لهذه المكتبة، فأجابت بأنّها مكتبة متخصصة في تاريخ الأديان المقارنة ويشرف عليها عدد من المطارنة والأخوات المسؤولات عن المكتبات المسيحية في العالم ومن مختلف الجنسيات، وأنّ زوّار المكتبة هم من فئة محدّدة تتمثّل في الباحثين في تاريخ الأديان والأديان المقارنة، وأكدت في السياق ذاته أنّ المكتبة لا تقبل عضوية أيّ أحد إلا بشروط صعبة، من بينها أن يكون الباحث فعلاً مرسماً في مستويات عالية في الجامعة ويقوم بالبحث في الأديان المقارنة سواءً من زاوية تاريخية أو ثيولوجية.
سنة 1840 تمّ إنشاء مدرسة ابتدائية -مكتبة ديوسيزان حالياً- لأبناء الجاليات الأوروبية، أي قبل انتصاب الحماية الفرنسية في تونس بأربعة عقود. وكانت الجاليات بالأساس هي المالطية والإيطالية والفرنسية والأسبانية وبعض اليونانيين والنمساويين ومعتنقي الديانة المسيحية من القادمين من شرق أوروبا والمناطق التي وصل إليها نفوذ العثمانيين في تلك الفترة.
كانت المدرسة بمثابة إطار علمي وتربوي يقوم من خلاله مسيحيو تونس والمسيحيون المقيمون فيها باستغلاله للتأليف والتأريخ لأبناء دينهم والقدّيسين الذين مرّوا بالبلاد والذين عاشوا فيها. وقد كانت لهم إنتاجات غزيرة في عوالم الفكر والنقد الديني والحوار بين الطوائف المسيحية، كما أنّ هذا المدرسة كانت فضاءً للجدال والنقاش بين عديد المفكرين.
تُواصل النابلي حديثها إلى راديو مسك حول مكتبة ديوسيزان مشيرةً إلى أنّ المكان أصبح منذ الخمسينات وخاصة بعيد الاستقلال فضاءً مخصصاً للبحث في الأديان المقارنة، نظراً إلى رمزيته المقترنة بسبب إنشائه وسياقه التاريخي، وقد كان في بداياته مكاناً لتدريس الفتيات في الصباح والنقاش بين أتباع الأديان مساءً: يهود ومسيحيين ومسلمين.
الكتب التي وقع تأليفها تحت سقفه ليست الوحيدة الشاهدة على أنّ الانفتاح والتسامح وقيم العيش المشترك هي من سمات الحياة في تونس وقتئذ، فموقع هذه المكتبة المتخصصة في التاريخ والعلوم الثيولوجية غير الإسلامية في قلب المدينة العتيقة لتونس العاصمة بين الباعة والزبائن والمسلمين الذين يُؤدّون صلواتهم في مساجد قريبة من ديوسيزان ويمرّون يومياً من أمامه هو في حدّ ذاته شهادة حيّة على مبدأ التعايش السلمي بين الأديان -في بلد ذي أغلبية مسلمة- إذ لم يتمّ تسجيل أيّ اعتداء عليه تحت أيّ ذريعة دينية أو لأيّ سبب آخر منذ تأسيسه، بل إنّ هذه المكتبة كانت ملجأ اختبأ فيه الشباب الثائر من الشرطة في الفترة الفاصلة بين 17 ديسمبر 2010 و14جانفي 2011.
المكتبة عبارة عن قاعة كبيرة للمطالعة، كما أنّها مُجهّزة بتقنيات العرض على الحائط للقيام بندوات غير دورية، وشكل القاعة يؤكد أنّها كانت محراب كنيسة قديم وشديد الإضاءة، وحتى جغرافية الفضاء توحي بأنّها كانت كذلك نظراً إلى كون جميع المقاعد متّجهة نحو نقطة واحدة في آخر القاعة أين يقف المدرس أو القديس من قبل.
قبل الولوج إلى القاعة في الجهة المقابلة، يوجد باب على يسار الزائر، يؤدي مباشرة إلى صحن واسع تحيط به أشجار صغيرة للزينة، وتنتصب أعمدة الرخام وفق صفوف منظمة وأنيقة تُضفي رونقاً خاصاً للمكان الذي لا تخلو منه روح مزدوجة: الروح المعمارية العربية والروح المعمارية الغربية المسيحية... فعلا المكان جميل!
تعود أدراجك متّجها نحو بهو الدخول، لتلج مدخلاً على اليمين هذه المرة، ومنه إلى متاهة واسعة من الرفوف. في المجموعة الأولى منها يوجد حوالي 1000 كتاب يتناول تاريخ المسيحية في أفريقيا، والمجلات والكتب الصادرة عن الكنائس البارزة في أفريقيا، خاصة شمالها: الجزائر والمغرب وتونس ومصر والسودان والسنغال وساحل العاج والكامرون وأفريقيا الوسطى وجنوب أفريقيا.
تتقدم بعد ذلك نحو مجموعة أخرى من الرفوف لتجد ملخصات بحثية عن كتب ووثائق كُتبت عن الآباء البيض (les pères blancs) منذ بداية تأسيسهم في الجزائر على يد الكاردينال لافيجوري سنة 1868. غير بعيد عنها ستجد مجموعة كتب وبحوث علمية جديدة وقديمة عن تاريخ التعايش بين المسيحيين واليهود في تونس والمسلمين والمسيحيين واليهود في فترات مختلفة من التاريخ، وغيرها من كتب الفقه الإسلامي والشروحات وترجمات للقرآن والإنجيل والتوراة. كذلك يوجد رف كبير يضم أعمالاً أدبية وأشعاراً لها طابع ديني وفلسفي أيضاً، كما توجد رفوف خاصة بالفنون والموسيقات وآلات العزف.
كما تجدر الإشارة إلى أنّ الباحثة سامية النابلي، وهي متخصصة في التاريخ المسيحي الحديث بكلية الأداب بمنوبة، أكّدت أنّ المطران باكو الأسباني والأخت مونيكا الفرنسية هما المؤسسان للمكتبة في شكلها الحالي سنة 2001، وقد حرصا على أن تكون المكتبة مخصّصة للباحثين في الأديان المقارنة بالأساس، مع بعض الانفتاح على الباحثين في الفلسفة شرط أن يكونوا في مستويات متقدمة من البحث أي ماجستير أو دكتوراه. لكن النية الآن تتجه نحو الانفتاح التدريجي على بعض الباحثين في الأنثروبولوجيا واللغات المقارنة والتاريخ الوسيط وغيرهم.